نشر المرصد
العراقي لحقوق الإنسان تقريرا تابعته النهرين في الذكرى الخامسة لاحتجاجات تشرين
2019.
وعبر المرصد عن
أسى واستياء عميقين نتيجة استمرار غياب العدالة لضحايا الاحتجاجات التي شهدت نزول
الآلاف من العراقيين، خصوصاً الشباب، إلى الشوارع مطالبين بحياة كريمة ووطن خالٍ
من الفساد.
ورغم الطابع
السلمي للاحتجاجات، فقد تم مواجهتها بعنف مفرط أودى بحياة أكثر من 600 شخص،
بالإضافة إلى إصابة الآلاف بجروح بليغة، ناهيك عن الاعتقالات التعسفية والاختفاء
القسري الذي طال الناشطين.
احتجاجات
تشرين، التي اندلعت في الأول من أكتوبر 2019، كانت بمثابة صرخة شعبية ضد التدهور
الاقتصادي، والفساد المستشري، وسوء الإدارة، والبطالة. خرج العراقيون بأمل كبير في
التغيير السلمي، لكنهم وُوجِهوا بقمعٍ قاسٍ، استخدمت فيه القوات الأمنية الرصاص
الحي، الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية لتفريقهم.
تروي إحدى
الأمهات التي فقدت ابنها البالغ من العمر 22 عاماً في الاحتجاجات: "كان يقول
لي دائماً: 'العراق سيصبح أفضل يا أمي، علينا أن نخرج ونطالب بحقوقنا. لم أستطع
منعه، رغم خوفي الشديد. في يوم وفاته، كان في الصفوف الأمامية بمنطقة السنك في
بغداد، حيث أُطلقت عليه النار من قبل قوات مجهولة وسقط قتيلاً. عندما استلمت جثته،
شعرت وكأنني فقدت روحي. أخذوا حلمه من بين يديه، ومن بين أيدينا جميعاً بلا رحمة".
ورغم الوعود
المتكررة من الحكومة العراقية، خصوصاً بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي في
نوفمبر 2019، لم تفضِ التحقيقات إلى نتائج حقيقية، ولم يُقدَم المسؤولون عن هذه
الجرائم إلى العدالة. لجان التحقيق التي تشكلت كانت بلا صلاحيات فعلية.
أصبحت سياسة
الإفلات من العقاب، واحدة من أخطر تداعيات هذا القمع. لم تتم محاسبة القوات
الأمنية ولا الفصائل المسلحة التي شاركت في قمع المتظاهرين. يقول أحد الآباء الذي
فقد ابنه البالغ من العمر 19 عاماً: "كنت فخوراً به، كان دائماً يتحدث عن
التغيير وحقه في العيش بكرامة. لكنه لم يعش ليرى هذا التغيير. حين فقدته، شعرت أن
كل أحلامي وآمالي قد تلاشت معه".
لم تقتصر
الانتهاكات على القوات الأمنية فقط؛ بل كانت الفصائل المسلحة المدعومة من قوى
سياسية نافذة، متهمة بالعديد من عمليات الاغتيال والترويع التي استهدفت الناشطين
والمنظمين للاحتجاجات. وثق المرصد العراقي لحقوق الإنسان حالات اغتيال متعددة،
أبرزها اغتيال إيهاب الوزني وأمجد الدهامات، فضلاً عن محاولات اغتيال أخرى استهدفت
ناشطين مثل مجيد الزبيدي ولوديا ريمون.
وبالإضافة إلى
القمع الوحشي، لجأت السلطات إلى الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري. وحتى اليوم،
لا يزال مصير العديد من الناشطين مجهولاً، فيما يتعرض ذووهم لضغوط وتهديدات لتغيير
إفاداتهم.
قضية سجاد
المشرفاوي المعروف باسم "سجاد العراقي"، الذي اختطف في سبتمبر 2020،
تمثل نموذجاً صارخاً لهذه الانتهاكات. وعلى الرغم من المطالبات المحلية والدولية
بالكشف عن مصير المختفين، لم تستجب السلطات العراقية بشكل جاد حتى الآن.
إحدى الأرامل
التي فقدت زوجها في الاحتجاجات تقول: "زوجي كان يعمل ليلاً ونهاراً لتأمين
حياة كريمة لنا، لكنه كان يؤمن أن العراق بحاجة إلى التغيير. في يوم وفاته، ودّعنا
كعادته، لكنني لم أعلم أن ذلك سيكون وداعنا الأخير. لقد ترك لي طفلاً يتيماً
وأحلاماً محطمة".
منذ بداية
احتجاجات تشرين، ظل المرصد العراقي لحقوق الإنسان يطالب بإجراء تحقيقات شفافة
ومستقلة حول الجرائم التي ارتُكبت بحق المتظاهرين السلميين. ومع أن العديد من
اللجان الحكومية قد شُكلت، إلا أن معظمها كانت مجرد أدوات لتسويف الحقيقة وتأجيل
المساءلة. هذه اللجان لم تتمتع بالصلاحيات الكافية ولم تكن لديها الإرادة السياسية
لمحاسبة المسؤولين.
لن تتحقق
العدالة عبر اللجان الصورية أو التصريحات الإعلامية. ما نحتاج إليه هو إرادة
سياسية حقيقية لملاحقة المتورطين، سواء كانوا من القيادات الأمنية أو من فصائل
مسلحة.
دون محاسبة
حقيقية، سيظل الطريق إلى العدالة مسدوداً. العدالة ليست مطلباً قانونياً فحسب، بل
هي مطلب إنساني وأخلاقي. كل تأخير في تحقيق العدالة يعني استمرار الألم والمعاناة
لأسر الضحايا، الذين فقدوا أحباءهم.
يجب على
الحكومة العراقية أن تتخذ خطوات عاجلة لإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، وضمان
ملاحقة جميع المتورطين في الجرائم التي ارتُكبت بحق المتظاهرين، سواء كانوا
أفراداً من الأجهزة الأمنية أو من جهات أخرى.
إن جبر الضرر
للضحايا وأسرهم، هو خطوة لا تقل أهمية عن المحاسبة. هؤلاء الضحايا لم يخسروا
حياتهم فحسب، بل تركوا خلفهم عائلات تعاني من الحزن والفقدان. يجب على الحكومة
العراقية أن تتخذ خطوات عملية لتعويض هذه الأسر مادياً ومعنوياً.