مع تجديد زعيم التيار الوطني الشيعي، السيد مقتدى الصدر، مقاطعته للانتخابات المقبلة، رصد "مركز الامارات للسياسات"، في تقرير له، تابعته "النهرين" المشهد السياسي في العراق، والتحديات التي تفرضها الاحداث الإقليمي والضغوط الامريكية المتواصلة، ولم يستبعد المركز الاماراتي إمكانية عودة الصدر للمشهد السياسي في أي لحظة..
وفيما
يلي نص تقرير "مركز الامارات للسياسات":
جدَّد
زعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، مقاطعته العملية السياسية في البلاد،
واضعاً المشهد السياسي العراقي أمام تحديات جديدة تُضاف إلى التحديات التي
تَفرضُها الأحداث الإقليمية والضغوط الأمريكية المتواصلة. وفي حين أن السيناريوهات
لا تزال مفتوحة حول إمكانية عودة الصدر عن قرار المقاطعة لاحقاً أو التوجه إلى
حلول أكثر صدامية مع الطبقة السياسية، فإن دوافع المقاطعة هذه المرة تبدو مختلفة
عن تلك التي دعته إلى إعلان انسحاب تياره من العملية السياسية عام 2022، ومرتبطة
ارتباطاً وثيقاً بالتطورات الإقليمية والدولية.
الانسحاب
والمقاطعة في سياقٍ مُرتبِك
نَشَر
ما يُعرف بـ"وزير القائد"، وهو اسم حركي في مواقع التواصل الاجتماعي
لمُقرَّب وثيق من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، ليلة 27 مارس 2025، بياناً من
زعيم التيار مُوقَّع بتاريخ 15 فبراير الماضي، يدعو فيها أنصاره إلى مقاطعة
الانتخابات وعدم الترشُّح فيها أو التصويت لأنها تمثل "إعانة على
الإثم".
وجاء
بيان الصدر رداً على استفسار من أحد أنصاره حول استعدادات التيار للمشاركة في
الانتخابات، وقال فيه: "مادام الفساد موجوداً فلن أشارك في عملية انتخابية
عرجاء لاهم لها إلا المصالح الطائفية والعرقية والحزبية بعيداً كل البعد عن معاناة
الشعب وعما يدور في المنطقة من كوارث كان سببها الرئيسي هو زج العراق وشعبه في
محارق لا ناقة له بها ولا جمل"، وأضاف مخاطباً جمهوره: "ولذا فإني كما
أمرتهم بالتصويت فاليوم أنهاهم عن التصويت والترشيح ففيه إعانة على الاثم (...)
فأي فائدة ترجى من مشاركة الفاسدين والتبعيين والعراق يعيش أنفاسه الأخيرة بعد
هيمنة الخارج وقوى الدولة العميقة على كل مفاصله".
ويأتي
سياق إعلان الصدر الجديد مُتعارضاً تماماً مع كل مخرجات التيار الصدري في خلال
الشهور الأخيرة، والتي تمت بدعم من الصدر نفسه، من تأسيس "التيار الوطني
الشيعي" وإعادة العمل بالمكاتب السياسية للتيار، ومن ثمَّ تحرك قيادات التيار
السياسية نحو عقد لقاءات وإجراء مباحثات حول الانتخابات المقبلة التي سبق أن دعا
الصدر أنصاره إلى المشاركة الفاعلة فيها عبر مطالبتهم بتحديث بياناتهم الانتخابية.
وعلى
رغم أن الصدر لم يُعلِن، أو أحد المخولين في تياره، المشاركة الرسمية في
الانتخابات البرلمانية المقررة نهاية العام الحالي، بعد أن كان قاطع انتخابات
مجالس المحافظات نهاية العام 2023، فإن السياق العام للمشهد السياسي في العراق كان
يُشير إلى فرص كبيرة للتيار الصدري في حال المشاركة، ووجود ظروف أكثر مواءمة
لحصوله على منصب رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة، وهو المطلب الذي ما نَجَحَ عبر
تحالفه مع رئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني، وزعيم حزب
"تقدم" محمد الحلبوسي، في تحقيقه بعد انتخابات العام 2021، وانسحب بسبب
ذلك من العملية السياسية برمتها.
فمن
ناحية، يمكن القول إن الحكومة التي شكلتها قوى "الإطار التنسيقي" تواجه
تحديات كبيرة قد تتضاعف في خلال الشهور المقبلة مع ظهور أزمة الكهرباء والقيود
والعقوبات المالية والاقتصادية التي قد تُعلنها واشنطن ضد مؤسسات رسمية عراقية،
وقد يتطور الأمر إلى هجمات أمريكية مباشرة ضد المليشيات التابعة لإيران وسط رأي
عام يُحمِّل الحكومة وقوى الإطار مسؤولية الفساد المتفاقم والفشل في إدارة
العلاقات وسط الأزمات الإقليمية المتصاعدة، وان كل ذلك يُمكِن ترجمته انتخابياً
بدعم التيار الصدري، باعتباره الطرف المعارض الأبرز.
ومن
ناحية أخرى، تُفيد المعلومات أنّ إيران التي يتَّهمُها أنصار الصدر بالدفع بزعيمهم
إلى اعتزال السياسة بعد تهديد حياته وقتل أنصاره في خلال تظاهرات على أبواب
المنطقة الخضراء أواخر 2022، أرسلت بعد التطورات الإقليمية الأخيرة رسائل مباشرة
إلى مقتدى الصدر تؤكد استعدادها لقبول تشكيل تياره للحكومة المقبلة في العراق.
وتكشف المصادر عن اتصالات متواصلة بين الصدر والمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني،
لبحث الوضع الشيعي وسط الأزمة الإقليمية الحالية وكيفية إدارة العلاقة مع إيران من
جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، ما يُمثِّل عامل دعم إضافي للصدر في حال قرَّر
تشكيل الحكومة في المرحلة المقبلة.
تُشكّل
المتغيرات والتداعيات الإقليمية والدولية التي تواصلت ابتداء من أحداث 7 أكتوبر في
غزة، عاملاً رئيساً أشار إليه مقتدى الصدر في مُسوِّغات مقاطعته
دوافع
تجديد المقاطعة وأسبابها
تنوعت
التكهنات السياسية حول قرار الصدر الجديد فور الإعلان عنه، ومن المرجح أن تستمر في
شكل ردود فعل في الأوساط السياسية العراقية لبحث تداعيات القرار وما سوف يترتب
عليه. وفي المجمل يُمكِن تمييز بعض الاتجاهات التي فسَّرت القرار وجاءت من مصادر
وخلفيات سياسية مختلفة:
أولاً:
مقاطعة بدلالات انتخابية وسياسية
يدعم
أنصار هذا التفسير رأيهم بأن الظروف السياسية التي أفرزت خريطة ما بعد انتخابات
2021 لم تختلف اليوم، وأن التيار الصدري بصرف النظر عن تصاعد شعبيته بعد الانقطاع
الطويل، يُمثِّل فئة اجتماعية محددة ومن الصعب تضاعفها بناءً على الانغلاق
الأيديولوجي للتيار من جهة، واستقطاب الجهات السياسية المناوئة له لشرائح اجتماعية
مستعينة بالمال والسلطة التي حصلت عليها خلال الأعوام السابقة من جهة أخرى. ووفق
هذا الاتجاه فإن حصول الصدريين على 73 مقعداً في البرلمان في الانتخابات السابقة
يُعَد أمراً من الصعب حدوثه مجدداً، ويذهب بعض التقديرات إلى حصول التيار في
الظروف الحالية على ما بين 50 إلى 60 مقعداً، ما سيُعدّ خسارة وتراجعاً.
وفي
خلال الشهور الأخيرة برزت على السطح رسائل مباشرة وغير مباشرة من التيار الصدري
إلى القوى السياسية باعتماد قانون انتخابات 2021 بالدوائر المتعددة شرطاً لمشاركة
الصدريين في الانتخابات، وهو المطلب الذي رُفِضَ حتى الآن من القوى المهيمنة
حالياً، مُعتمدين بديلاً عنه نظام "سانت ليغو المعدل" الذي اعتمد في
انتخابات مجالس المحافظات 2023، والذي لا يساعد التيار الصدري على تحقيق نتيجة
انتخابية كبيرة.
ويمكن
إضافة معطى آخر هو استقطاب قوى "الإطار التنسيقي" من طريق رئيس الوزراء
محمد شياع السوداني لبعض القوى والشخصيات في الحركة المدنية وأنصار حراك
"تشرين" الذين كانوا قريبين من توجهات الصدر سابقاً، بالإضافة إلى صعوبة
جمع الصدر لتحالفه السابق مع الحلبوسي وبارزاني اللذَين شاركا قوى الإطار في تشكيل
الحكومة الحالية. ويمكن الإشارة إلى العامل السياسي في نص قرار الانسحاب الذي تضمن
إشارة إلى سيطرة ما أسماها الصدر "قوى الدولة العميقة" على كل مفاصل
الدولة.
ثانياً:
العامل الإقليمي والدولي
تُشكّل
المتغيرات والتداعيات الإقليمية والدولية التي تواصلت ابتداء من أحداث 7 أكتوبر في
غزة، عاملاً رئيساً أشار إليه مقتدى الصدر في مُسوِّغات مقاطعته. فمن جهة، ينظر
مقربون من الصدر إلى الرسائل الإيرانية الإيجابية إلى تيارهم باعتبارها محاولة
لتوريطهم في صراعات يكونون في صدارتها في المرحلة المقبلة، بمعنى اختباء أنصار
إيران ومليشياتها تحت عباءة الصدر، ومن جهةٍ ثانيةٍ لن يكون بإمكان الصدر -في حال
تشكيله الحكومة وتحمُّل مسؤوليتها مُنفرداً عن بقية الأطراف الشيعية- التعاطي
الإيجابي مع الجانب الأمريكي واحتمالات توجه المنطقة إلى التطبيع مع إسرائيل،
وأيضاً التعاطي العراقي المباشر مع سورية التي تحكُمُها القوى الإسلامية
السُّنيَّة، خصوصاً بعد أن صعَّد الصدر خطابه ضد واشنطن وإسرائيل في الشهور
الأخيرة ودافع عن حزب الله اللبناني وانتقد الضغوط الاقتصادية والأمنية على إيران.
وفي
كل الأحوال، لا يَثِقُ الصدر كثيراً بالتوجهات الإيرانية وقد استمر في رفض استقبال
عدد من المندوبين الإيرانيين إلى العراق، ومن بينهم زعيم فيلق القدس الحالي
إسماعيل قآآني. إنّ توجُّس الصدر من نتائج التداعيات الإقليمية عبَّر عنها في
بيانه الأخير بعبارة إن "العراق يعيش أنفاسه الأخيرة" في إشارةٍ ذات
دلالة على مخاوف من وصول تداعيات أزمات المنطقة إلى العراق وتسبُّبها بتقسيمه أو
نشوب حرب أهلية، وهي من بين المخاوف التي يرددها معظم السياسيين العراقيين مؤخراً.
وربما يكون الصدر قد قدَّر على أساس هذه التوقعات البقاء خارج العملية السياسية
إلى حين انقشاع الضباب وترك خصومه الشيعة لتحمل تبعات أي اضطراب جديد، ومن ذلك
اضطرابات قد تُصيب إيران نفسها، سواء بفواعل داخلية أو من طريق حرب تشنُّها
الولايات المتحدة وإسرائيل.
من
المحتمل أن يؤدي اعتماد الصدر مسار المقاطعة إلى أزمة سياسية كبيرة في العراق،
ربما تترافق مع مقاطعة غير مسبوقة للانتخابات المقبلة
ثالثاً:
العوامل الاقتصادية والاجتماعية
دعَمَ
الصدر علناً ورقة الإصلاح الاقتصادي والإداري في خلال حكومة رئيس الوزراء السابق
مصطفى الكاظمي، ويَنظُر أنصاره بعين النقد للحكومة الحالية لعدم تبنّيها مقترحات
الإصلاح وبالتالي تفاقُم الوضع الاقتصادي في العراق بشكل متواصل، وظهور بوادر
لأزمات مالية واقتصادية من الصعب معالجتها لاحقاً. إن تعقيد الوضع الاقتصادي في
العراق يفجّر تكهنات مستمرة بحدوث اضطرابات اجتماعية على غرار "أحداث
تشرين" عام 2019 تضع الطبقة السياسية الحاكمة أمام تحديات جسيمة، قد تنعكس
بدورها على البيئة الاجتماعية للتيار الصدري المعروفة بأنها تُمثِّل في غالبيتها
الفئات المسحوقة في المجتمع.
رابعاً:
العوامل الدينية والشخصية
لا
يمكن عزل زعيم التيار الصدري السياسي عن صفته الشخصية باعتباره زعيماً دينياً،
يتبعه مئات الآلاف من الأنصار ويستمدّون من فتاواه وتعليماته نسقهم الحياتي
والديني. عودة الصدر مرة أخرى إلى العمل السياسي من دون حدوث متغيرات كبيرة وحاسمة
عن تلك الظروف التي دفعته للانسحاب سابقاً تضعه في حرجٍ أخلاقيٍّ أمام أنصاره
الذين فقدوا العشرات بين قتيل وجريح في أحداث المنطقة الخضراء عام 2022، وستكون
عودتهم السياسية لمشاركة الآخرين في الحكومة بمثابة تنازل عن الأهداف التي طرحها
الصدر في تلك المرحلة، ومنها محاربة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة، وإنهاء
التبعية السياسية إلى الخارج. وفي السياق ذاته، فإن الكثير من تحركات الصدر
وقراراته تتسم طبقاً للمُقربين منه بدوافع دينية، ويمكن تلمُّس ذلك في نزعته خلال
العامين الأخيرين إلى طرح قضايا دينية ومناقشتها ضمن مشروعه الديني الخاص.
وعلى
رغم كل ذلك يمكن القول إن قرار الصدر بالانسحاب سابقاً، وقراره الحالي أيضاً، لا
يحظيان بإجماع بين أنصاره وحتى بين الدوائر المقربة منه، التي يجد بعضها أن
الانسحاب السياسي كبَّد التيار خسائر كبيرة على مستويات مختلفة ودفع العديد من
المناصرين إلى الانسحاب أو تشكيل مجموعات متطرفة داخل التيار الصدري.
السيناريوهات
المحتملة
يمكن
الحديث عن سيناريوهين محتملين لمستقبل انسحاب التيار الصدري ومقاطعته العملية
السياسية في العراق:
السيناريو الأول: استمرار المقاطعة وانتظار متغيرات سياسية كبيرة، من ضمنها تفجُّر الوضع العراقي الداخلي. هذا الخيار مطروح حتى الآن في ضوء المعطيات السابقة بوصفه موقفاً استراتيجياً يقوم على أساس انتظار متغيرات المرحلة المقبلة في ضوء التصدعات الداخلية، وضعف الموقف الإيراني واحتمالات التدخل الخارجي، بما يتيح للتيار الصدري أن يكون طرفاً في ترتيبات المرحلة المقبلة. إن اعتماد الصدر لهذا المسار يُحيل إلى توقعات بأزمة سياسية كبيرة تنتظر العراق قد تترافق مع مقاطعة غير مسبوقة للانتخابات المقبلة أو تنصُّل من إجراء الانتخابات نفسها، وسط اضطرابات اجتماعية وأمنية.
في
المقابل يُقلِّل بعض المراقبين من تبعات قرار الصدر، مُشيرين إلى تجربة مقاطعته
انتخابات مجالس المحافظات عام 2023، وعدم تأثير تلك المقاطعة على الوضع السياسي
والأمني العام، ولا على إجراء الانتخابات.
السيناريو
الثاني: عودة الصدر عن المقاطعة بعد الحصول على ضمانات سياسية داخلية وخارجية. مع
أن مثل هذا الخيار مُستبعَد حالياً، إلا أنَّه ممكن في ضوء تجربة انسحاب الصدر من
انتخابات عام 2021، ثم عودته للمشاركة فيها بعد توقيع زعماء الكتل السياسية على
وثيقة التزامات باسم "الوثيقة الوطنية"، والتي أُهمِلَت بعد الانتخابات.
لكن
في حال شعرت القوى السياسية المختلفة، وخصوصاً الشيعية، أن مقاطعة الصدر قد
يَترتَّب عليها تداعيات أمنية وسياسية فادحة، فإنهم قد يُقدِمون على إجراء
إصلاحات، سواء على مستوى قانون الانتخابات أو تعديل سياق فتوى الكتلة الأكبر، وقد
تتدخل طهران في حال كانت مشاركة الصدر في الانتخابات تخدم مصالحها لحث القوى
الشيعية على تقديم كل التنازلات المطلوبة من أجل مشاركته.
خلاصة
واستنتاجات
يأتي
إعلان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر انسحابه من المشاركة في الانتخابات ودعوته
أنصاره إلى مقاطعتها في ظرف سياسي حسَّاس يمر به العراق على خلفية تداعيات الأوضاع
الإقليمية، والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية، سواء ضد إيران أو ضد المليشيات
العراقية الحليفة لها. ولا يُمكِن عزل موقف الصدر عن التطورات الأخيرة على رغم
وجود اعتبارات داخلية ساهمت في تنضيج قراره، أبرزها رفض قوى البرلمان العراقي التي
حصلت على حضورها السياسي بعد انسحاب الصدر من البرلمان إقرار قانون الانتخابات
الذي يعدُّهُ الصدريون أكثر عدالةً من سواه، وفازوا من طريقه في انتخابات 2021.
ولن
يمضي إعلان الصدر الأخير من دون جدل سياسي، ومن دون تداعيات قد يقود بعضها إلى
انسحابات ومقاطعات مُشابهة تضع القوى الحاكمة الحالية في موقف أكثر حرجاً، على رغم
استبعاد هذا الخيار حالياً. وسوف تترتب على قرار الصدر تداعيات ونتائج مباشرة
وأخرى تعكسها الانتخابات التي سوف تصبُّ إذا استمر الوضع الحالي في صالح حِفَاظ
قوى "الإطار التنسيقي" على حضورها السياسي الحالي.